كتب: رئيس التحرير

لا يختلف إثنان في أن الإدارة التونسية تعجّ بالإطارات ذات الكفاءة العالية من خريجي الجامعات والمدرسة الوطنية للإدارة وغيرها من المؤسسات المختصة، وهم يمثلون عصب الإدارة منذ سنوات طويلة، وبفضلهم لم تعرف الإدارة التونسية أي اضطراب طيلة تاريخها وحتى في أشد الأزمات والتحوّلات مثلما حصل في جانفي 2011، عندما استرسلت الإدارة في إسداء خدماتها رغم فقدان الدولة لرأسها.
غير أن التاريخ يشهد أننا لا نحسن التعامل مع كفاءاتنا ولا نقدر حجم عطائهم وتضحياتهم رغم المقابل الزهيد الذي يتحصلون عليه والذي يطلق عليه جزافا “أجر”، باعتبار أن شبكة الأجور بالوظيفة العمومية لم يتم إعدادها بالشكل الذي يمنح الموظف التونسي أجرا يعكس فعلا حجم العمل الذي يقوم به، وهذا موضوع يطول فيه الحديث وقد نعود له في مناسبة أخرى، فعديد الإطارات السامية في الدولة ومنذ سنوات يتم إزاحتها بجرّة قلم وزير أثّر عليه الوشاة ومرضى النفوس فأفقد الإدارة أحد أعمدتها.
ففي الأسبوع الذي نودعه اليوم تناهى إلى مسامعنا خبر إنهاء مهام المدير العام للمصالح المشتركة بوزارة الثقافة من مهامه بأثر رجعي من تاريخ 11 ديسمبر 2024، بما جعل بعض الأطراف تتناقل الخبر وكأنه إنجاز يحسب لوزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي التي أزاحت رمزا من رموز الفساد مثلما يروّج له بعض الذين لا يمتلكون أي معطيات تسمح لهم بالتقوّل عن الرجل بما ليس فيه، والحال أن الأمر على خلاف ذلك تماما.
وفي البداية لا بدّ من التنويه أن تناولنا لهذا الموضوع دون سواه يعود بالأساس إلى اطلاعنا على دقائق الأمور في وزارة الثقافة ومعرفتنا الجيدة بكل ما يدور داخلها بحكم صفتنا الإعلامية التي تجاوز 30 سنة، التي سمحت لنا بالاحتكاك بكوادرها والوقوف على إمكانياتها في التسيير والاشراف.
فالسيد عماد الحاجي الذي صدر أمر إنهاء مهامه من خطته الوظيفية كمدير عام للمصالح المشتركة يعتبر من أقدم الإطارات السامية في الوزارة ويمتلك كفاءة عالية جدا وقدرات هائلة ناهيك وأنه خريج كلية الحقوق بتونس والمدرسة الوطنية للإدارة، وراكم تجربة طويلة جعلت منه أحد أفضل الإطارات ليس في وزارة الثقافة فحسب بل في الإدارة التونسية ككل.
وكان إلى حد سنوات قليلة مضت يتولى مسؤولية التفقدية العامة بوزارة الثقافة، وهي مهمة صعبة جدا في مختلف الوزارات وتجلب لصاحبها العداء من زملائه داخل الوزارة، إذ يرون فيه سيفا مسلطا على رقابهم رغم أن حقيقة الأمر على خلاف ذلك، وهذا الأمر لم ينجُ منه السيد الحاجي الذي ناصبته نقابة أعوان وزارة الثقافة العداء وحاكت له المكائد خاصة في زمن انفلاتها، حيث ترفض أن يتولى فتح أي ملف رغم أن البحث في الملفات من قبل التفقدية يتم بناء على مذكرة صادرة عن الوزير، وليس بالارادة المنفردة للمتفقد العام.
هذا العداء من قبل النقابة للمتفقد العام وجد تجاوبا من قبل وزيرة الشؤون الثقافية السابقة حياة قطاط القرمازي، التي أنهت مهامه رغم أنها لا تمتلك أيّ ملف يدينه وإلا لأحالته على القضاء، لكن إذعانها لصوت النقابة المهنية جعلها تطيح بأحد أكفإ اعوان الوزارة.
ويبدو أن الوزيرة وقفت بعد ذلك على حجم الكارثة التي ارتكبتها ليس في حق الوزارة فقط بل في حق الدولة كاملة، فعملت على تدارك أمرها وتعيينه على رأس الإدارة العامة للمصالح المشتركة، لكن انضباط المعني بالأمر وجديته واستقامته وقوة شخصيته وحرصه على أداء واجبه الوظيفي مع تمام الأمانة عوامل جعلت الخلاف يدبّ بينه وبين الوزيرة قطاط القرمازي التي كانت تريده طوع بنانها لكن خاب مسعاها، غذته بعض الأطراف التي كانت دوما تسعى إلى إبعاد المعني بالأمر عن مواقع المسؤولية في الوزارة ليخلو لها الجو فتبيض وتفرّخ كيفما تشاء… ونجحت هذه الأطراف في تأليب الوزيرة على المدير العام فتم إبعاده من الإدارة العامة للمصالح المشتركة…
لكن كفاءة الشخص كانت دوما تفرض نفسها خاصة أن الرجل لم يثبت عنه ارتكاب أي إنحراف وليس لديه أيّ ملف فساد أو استغلال نفوذ أو ما شابه ذلك، فتم بمذكرة من الوزيرة القرمازي تكليفه بالإدارة العامة للكتاب، وهي المسؤولية التي لا يزال يتحمّلها إلى اليوم بكامل الاقتدار والجدية والانضباط، مع أن بعض الأصوات النشاز لا تزال تحيك الدسائس للرجل سعيا لإبعاده من جديد عن الإدارة العامة للكتاب…
إن الأمر الصادر في الأيام الأخيرة بإنهاء مهام السيد عماد الحاجي من خطة مدير عام المصالح المشتركة ليس عقوبة في حق الرجل مثلما هلّل له البعض عن جهل وعدم دراية، بل تصحيح لإجراء إداري لا غير باعتبار أن هذه الإدارة العامة تمت تسمية مدير عام جديد على رأسها، وفي صورة عدم صدور أمر إعفاء المدير العام السابق يكون قانونا هناك مديران عامان على نفس الإدارة العامة وهو أمر لا يستقيم، وبالتالي فأمر إنهاء المهام هو تصحيح لوضعية إدارية وليس عقوبة ضد أيّ طرف.