بقلم/نورالدين مزهود

كاهية مدير المطالعة العمومية المندوبية الجهوية للثقافة بسليانة

لا أحد ينكر أن المطالعة هي من السلوكيات الأساسية التي تسهم في تطوير أفكار الأفراد، وتصحيح كيفية تفاعلهم مع الحياة والواقع المحيط بهم، إذ تساعد في الحفاظ على طاقات المجتمع وتطوير مهاراته،
وإذا تحدثنا عن المطالعة فأننا نقصد بالضرورة الكتاب الذي هو الركيزة الأساسية للمطالعة، وهو عصارة ما أنتجه المفكرون والباحثون لأجل تنوير القراء بمفاهيم جديدة تفيدهم في حياتهم العامة، إلى هنا نستنتج أن هناك باث (الكاتب) ومتقبل (القارئ)، وحتى يتمكن المتقبل من الوصول والاستفادة مما أنتجه الفكر البشري من معلومات لا بدّ من وجود وسيط والذي يتمثل في المكتبة وما تحتويه من رصيد بشري يُسخّر لخدمة القارئ ومساعدته على الوصول إلى المعلومة التي يبحث عنها في أحسن الظروف وفي أسرع وقت ممكن، ونستخلص من ذلك علاقة ثلاثية الأبعاد مترابطة فيما بينها كتاب –وسيط– قارئ.
هذه المهمة الموكولة للمكتبة تتطلب أدوات ووسائل عمل وتقنيات لمعالجة المعلومات الواردة على المكتبة من حين لآخر. وتتمثل هذه التقنيات في المعالجة الفنية للكتاب والتي تسمى – السلسلة الوثائقية – منذ دخول الكتاب للمكتبة إلى أن يقع بثه للقراء، ولا يقتصر عمل أخصائي المعلومات على المعالجة الفنية وتنظيم الكتب على الرفوف، بل إن دوره خلق عمليات إضافية كفيلة بالتعريف بما تحتويه المكتبة من رصيد معرفي هام والخدمات التي يمكن تقديمها للمستفيد، لأنه ليس المهم تخزين وتنظيم الكتاب داخل الرفوف بل الأهم كيفية الاستفادة من محتواه وجعله ينتقل بين أيادي وعقول القراء، ومن بين هذه العمليات نجد التسويق أي التسويق لخدمات المكتبة حتى تتمكن من أداء دورها كما يجب داخل محيطها من خلال جعل المكتبة سوقا ديناميكيا يهدف إلى الربح بمفهومه الواسع من خلال استقطاب أكثر عدد من القراء والمستفيدين والمزيد من الأوعية الفكرية، ومن خلال هذه الورقة سنحاول تقديم لمحة عن أهمية التسويق في المكتبات العمومية.
1- مفهوم التسويق
يعدّ التسويق في المكتبات العمومية أداة فعالة، للتعامل مع المستفيدين وتقديم خدمات تتلاءم مع مختلف احتياجاتهم ورغباتهم، ووسيلة تسعى إلى تحقيق رضاهم التام، ففي مجال التجارة، فقد عرفه كل من غاري أرمسترونغ وفيليب كوتلر في كتابهما أساسيات التسويق “بأنه تلك الوظيفة التي تسعي لتحديد أهداف المستهلكين المستقبلية وإيجاد الطرق المثلي لإشباع تلك الحاجات والرغبات بطريقة تنافسية ومربحة وتعمل الإدارة التسويقية الناجحة علي بذل الجهود المناسبة لتحقيق تبادل منتجاتها مع الأسواق المرتقبة”
معنى هذا أن تقوم بخلق منتج أو خدمات جديدة وبعد ذلك تحاول إقناع المستفيدين بالفائدة التي ستعود عليهم عند الاستخدام. أما في مجال علم المكتبات و وفقاً للجمعية الأمريكية للمكتبات، “يعتبر التسويق مجموعة من الأنشطة الهادفة إلى تعزيز التبادل والبناء السريع والاستجابة لهذه الخدمات … ، إذ لم يعد التسويق يقتصر على المنشآت ذات الربح المالي بل امتد إلى المنشئات التي تسعى إلى الربح الفكري والعلمي من خلال إعداد إستراتيجية تسويقية لخدماتها بناء على نوعية وحاجيات مستفيديها.

2- تاريخ تسويق خدمات المكتبات
لكل مجال تاريخ، والتسويق ليس وليد الصدفة بل نتاج لدراسات وبحوث علمية، وفي هذا الإطار ، نقلت لنا “جريتا رنبورج” في إحدى دراساتها أن فكرة تسويق الخدمات ظهر عندما ” طلب صمويل سويت جرين في كلمة له أمام مؤتمر الجمعية الأمريكية للمكتبات، الذي عُقد سنة 1876 بالتأكيد على تحسين العلاقات بين أمناء المكتبات …، كما تحدث أيضا “لوتي ستيرنز” في مؤتمر الجمعية الأمريكية للمكتبات الذي عقد 1896 , عن أهمية الدعاية والإعلان لمجموعات ولخدمات المكتبة ” , ومنذ ذاك التاريخ , أصبح لمثل هذه الكلمات الدعاية والإعلان مكاناً بين المترادفات المستخدمة من قبل العاملين والمتخصصين في المكتبات , وهذا يؤكد كم أن التسويق , كتصور وكنشاط ’ ليس بالشيء الجديد، وقد
بدأ مفهوم تسويق خدمات المكتبات في الظهور والسيطرة أكثر من ذي قبل , وذلك نتيجة للاستخدام المكثف لتكنولوجيا الاتصالات المتقدمة , الأمر الذي أدى بدوره لاحتدام المنافسة بين المكتبات لكسب هذا السوق الجديد عن طريق التسويق لخدماتها , خاصة في ظل تعاظم وتنامي أنشطتها المختلفة. هذا التطور الذي شهده مفهوم التسويق يعود إلى قناعة الباحثين بالقيمة الهامة لهذا المجال في جميع الميادين، وما يشهده اليوم قطاع المكتبات في أغلب دول العالم من تطور هو نتيجة للخدمات التي تقدمها لمستفيديها لأجل استقطابهم وإقناعهم بالقيمة العليمة لخدماتها، وبطبيعة الحال تختلف طبيعة التسويق من مكتبي لآخر تبعا لقدرة المكتبي على تقييم ذاته والسعي الدائم لتطوير إمكانياته المهنية مما يعود بالنفع على المكتبة من خلال تلبية حاجيات مستفيديها وجلب أكثر عدد من الرواد.
3- أساليب التسويق في المكتبات العمومية
تتنوع الوسائل التي يستخدمها المكتبيون في تسويق خدمات المعلومات ومصادرها حسب عناصر متعددة منها نوع المكتبة وأهدافها وطبيعة مجتمع المستفيدين منها والإمكانات المتوفرة لها،إضافة إلى قدرة المكتبي على مواكبة تطور العصر وإيمانه بقيمة الميدان الذي يشتغل فيه و وعيه بأهمية التسويق ودوره الأساسي في رفع مستوى الخدمات المكتبية وجلب رواد جدد، وحتى تكون عملية التسويق ناجعة لابد أن تعتمد على نقاط القوة القائمة لدى أخصائي المكتبات والمعلومات وعلى معرفتهم بالمستخدمين ، والمخزون الموجود لديهم وقدرات العاملين ونوعية الخدمات، واحتياجات المستفيدين، هذه الإستراتيجية هي البوصلة التي يعتمدها المكتبي في نحت أساليب التسويق، وعند إعداد خطة للتسويق على المكتبي طرح عدة أسئلة يقع الإجابة عنها خلال ممارسة عمله وتتمثل في
من هم المستفيدون ؟

ما الخدمات التي يتم تقديمها ؟

أين ستكون نقاط تقديم الخدمات ؟

ما التقنيات التي سيتم استخدامها؟

ما المبادئ والطموحات والأولويات للمكتبة ؟

ما نقاط القوة المتاحة للمكتبة ؟

كيف نريد المكتبة أن يراها المستفيدون من حيث استجابتها لاحتياجاتهم؟

من هم عناصر إدارة المكتبة القادرين على تحقيق النتائج المرجوة من عملية التسويق؟
هذه الأسئلة وغيرها التي يمكن أن تظهر خلال إعداد الخطة لابد من اعتمادها والتقيد بها عند الانطلاق في عملية التسويق والتي تعتمد بدورها على مجموعة من الوسائل والتي تتمثل في:
1- إعداد المطويات والوثائق المختلفة للتعريف بالمكتبة، وموقعها، وإمكاناتها، وفروعها، وخدماتها، وطرق استخدامها
2-دعوة المستفيدين وأفراد المجتمع لزيادة المكتبة والتعرف على مختلف خدماتها وأقسامها وأنشطتها.
إصدار النشريات والمجلات المختلفة للتعريف بالمكتبة والمعلومات ومصادرها وخدماتها
3-إعداد موقع واب أو صفحة للمكتبة ضمن موقع شبكة الانترنت
4-الإعلان عن قواعد البيانات ( إن وُجدت ) والتي تضم مختلف أوعية المعلومات
5-تفعيل الإحاطة الجارية والبث الانتقائي بوسائل مختلفة منها الإعلان عن المقتنيات الجديدة
6-استغلال المناسبات والأحداث المختلفة لتسويق المكتبة ومصادرها وخدماتها بين أفراد مجتمع المكتبة
7-تنظيم حصص ترويجية للعروض والمحاضرات والندوات والأنشطة الثقافية التي تعتزم المكتبة تنظيمها مستقبلا
8-التواصل المستمر مع كل من له علاقة بالمكتبة
9-الاستعانة بالوسائل التوضيحية وتكنولوجيا المعلومات، والاستعانة بنماذج من المستفيدين ليكونوا خير سفراء للمكتبة عندما يُطلب منهم المشاركة في التسويق
10-الاستعانة بأفكار وأساليب المكتبيين الآخرين وغيرهم لتبادل التجارب.
4- خصائص المكتبي القائم بعملية التسويق:
حتى يقوم المكتبي بعملية تسويق ناجحة وفعالة تعود بالنفع على مهام المكتبة وتحقق أهدافها التي تأسست من أجلها وتطوير خدماتها لفائدة مستفيديها وفرض وجودها، كمؤسسة عمومية ذات قيمة هامة داخل المجتمع، عليه أن يتصف بعدة صفات تمكنه من أداء المُهمة كما يجب وفق ما خطط له لتطوير عمله، وتتمثل هذه الصفات في:
1/ أن يكون مقتنعا بقيمة العمل الذي يقوم به داخل المجتمع.
2/ أن يكون مُلمّا بفن التواصل في مفهومه الشامل حتى يكون جاهزا لكل الفئات العمرية والمستويات العلمية المختلفة، لأن مهارات الاتصال والتواصل والإعلام هي التي تعتبر من أكثر العناصر المعروفة والمؤثرة في إنجاح أو إفشال عملية التسويق
3/ أن يكون عارفا بحاجيات المستفيدين والبيئة والمحيط الذي تأسست به المكتبة ومدركا للمتغيرات والمؤثرات فيها والتي كان قد دوّنها في الإستراتيجية التي أعدها مسبقا رفقة شركائه. لأن المكتبة تنشأ لخدمتهم وتلبية حاجياتهم المعلوماتية.
4/ان يكون ملما بالموارد والقدرات المتوفرة بالمكتبة وما هي الخدمات التي سيُسوّق لها
5/ أن يكون قادرا على تحديد المستفيد بدقة، لأن المكتبة تقدم خدمات لجميع شرائح المجتمع بمختلف مستوياته المعرفية، وعليه لابد أن تكون له المهارة في تصنيف المستفيدين حسب حاجياتهم وبذلك يكون التسويق موجّه وليس اعتباطيا .
6/ قادر على التفرد والمنافسة مع الآخرين، فهي من شروط البقاء والاستمرار في مجال المكتبات ومراكز المعلومات، والخدمات والأنشطة غير المتفردة أو المتميزة لن تستمر
7/ أن يكون قادرا على بناء وتنمية العلاقات مع كل من له علاقة بخدمات المكتبة لاسيما من المجتمع المدني بصفة عامة ومستفيدي المكتبة بصفة خاصة، لأن العلاقات الشخصية وبناء السمعة المميزة والثقة لدى الآخرين هي من أهم الأعمدة التي تساهم في تطوير خدمات المكتبة.
8/ أن يكون قادرا على استعمال الوسائل التكنولوجيا المتطورة في مجال التسويق.
5- تقييم عملية التسويق:
ان تقييم كل عمل بصفة عامة ضروري حتى تبرز لنا الايجابيات والسلبيات وبالتالي نُثمّن ما هو ايجابي ونُصلح ما هو سلبي، وفي هذا الإطار استوجب على المكتبي تقييم الخطوات التي قام بها خلال عملية التسويق والنتائج التي تحققت، هذا التقييم سيمكنه من معرفة مدى تحقيق الأهداف التي تم التنصيص عليها ضمن الخطة التسويقية والتغلب على الصعوبات والعقبات التي قابلت تنفيذها، لذلك نلاحظ أن الصلة وثيقة بين التقييم وخطة التسويق، ويعتمد المكتبي في تقييمه لما وصل إليه على عدة وسائل نذكر منها،

  • وضع صندوق مقترحات للمستفيدين حتى يعبروا على آرائهم التي ستقع دراستها وتحليلها لاحقا.
  • اعتماد استبيانات تتضمن مجموعة من الأسئلة تطرح على المستفيدين
  • مدى تطور أو نقصان عدد المشتركين بالمكتبة لان عدد المشتركين يعد مؤشرا قويا لمؤشرات نجاح المكتبة
  • مدى إقبال المستفيدين على الأنشطة التي تنظمها المكتبة من حين لآخر
  • ملاحظة سلوك المستفيدين داخل المكتبة وتحليله
  • لقاءات مباشرة مع المستفيدين سواء داخل المكتبة أو خارجها ومحاولة معرفة رأيهم في الخدمات المُقدمة
    هذه الأساليب وغيرها من شأنها أن تساعد على معرفة النجاح أو الفشل واكتشاف نقاط القوة والضعف في تطبيق الخطة التسويقية من أجل تطوير فاعلية أداء المكتبة .
    الخلاصة:أردنا من خلال هذه الورقة تسليط الضوء على عملية التسويق في المكتبات العمومية نظرا لأهميتها القصوى في تطوير الأداء للمكتبي والمكتبة في نفس الوقت، لأن التسويق يهدف إلى مزيد من نجاعة الخدمات المُقدمة للمستفيد باعتباره رأسمال وجود المكتبة واستمرارها، فالتسويق إذن هو أحد المفاهيم الأساسية المعاصرة التي تفرض علينا استثمارها من أجل تقديم خدمات أفضل للمستفيد خاصة وأننا في عصر تكنولوجيات توفر وسائل متطورة يمكن أن نعول عليها في مجال التسويق، وعليه فإننا مدعوون لمزيد رفع الوعي بمفهوم التسويق في المكتبات العمومية وأهميته الإيجابية من خلال تشجيع الدراسات والبحوث المهتمة بالتسويق ولما لا انجاز دورات تكوينية في هذا المجال للارتقاء بعمل المكتبات حتى يتسنى لها القيام بدورها على الوجه الأكمل في ظل عالم تكنولوجي متسارع.