تونس-إيمان الدجبّي

لم يكن أبدا الفضاء العام في تونس آمنا بالنسبة إليهم ولا مجالا للتعبير عن ذواتهم وميولاتهم وفقا لأغلب تقارير مكوّنات المجتمع المدني المحلي منه والدولي، المختلفون جنسيا يرون في الفضاء العام سجنا مفتوحا يجعلهم  يوميا في مواجهة تهم وأحكام قد تصل الإعدام الرمزي، تهم تحاصرهم جزافا وأحكاما مبنية على مواقف انطباعية يطلقها المجتمع على كل من يختلف معه جنسيا أو فكريا. بعض المختلفين جنسيا يخيرون المواجهة كلّفهم الأمر ما كلّفهم ولكن الأغلبية -واعتمادا على دراسات إجتماعية ونفسية- تختفي وتضطرّ لعزل نفسها في فضاء ضيّق غالبا ما يكون افتراضيا حيث  يكون فيه المحيطون به من نفس الميولات الجنسية والفكرية.

ولعل هذا الواقع يفرض علينا حتما طرح موضوع الحقوق الجنسية في تونس ومدى هشاشة ضماناتها القانونية والاجتماعية والنفسية منذ عقود خاصة أن التحرك والتمظهر في الفضاء الافتراضي للمختلفين جنسيا لم يعد هو الآخر آمنا بالقدر الكافي.

في هذا السياق، قال القانون التونسي كلمته منذ سنين ولكنها لم تكن حاسمة حسب رأي أهل القانون، فبقدر ما ترفع تونس شعار حماية الحقوق والحريات بقدر ما تكون هذه الحماية انتقائية، تنتصر لما يضعه المجتمع من شروط لتصبح الحقوق الجنسية والحديث عنها في خانة “المحرّمات” التي تدنّس “المقدسات”، وعليه يجد المختلفون جنسيا أو العابرون جندريا أنفسهم يتعاملون مع  مناخ قانوني ومؤسساتي معادٍ للتنوّع والاختلاف، حيث تستمرّ إلى اليوم  الانتهاكات والتجاوزات ضد المثليين والعابرين جنسيا في جوّ من الإفلات من العقاب القانوني الذي يحمي حقوق بقية الأفراد. وهذا المناخ يجعل عددا كبيرا من الأشخاص المنتمين إلى “مجتمع الميم عين” يعانون بصمت في ظل حرمانهم من حقوقهم الأساسية على غرار  الحق في التقاضي والصحة والتعليم والعمل و الاندماج الاجتماعي وفق ما جاء في تقارير وبيانات جمعية “دمج” المدافعة عن حقوق الأقليات في تونس. مناخ اجتماعي وقانوني ناظلت ضدّه جمعيات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الإنسان وطالبت بتحسينه المنظمات الدولية، ولكن الواقع بقي على حاله إن لم نقل تفاقم حتى أن بعض المختلفين جنسيا يختار العزلة والهروب من الفضاء العام نحو فضاءات أرحب -وفق تقدير بعضهم- تقبله مختلفا، لعل أبرزها الفضاء الافتراضي، الذي يهرب إليه  العابر جندريا ويضع له حدودا وشروطا تحميه من الانتهاكات الخارجية والتحرش والعنف المادي والمعنوي المباشر. ولكن يبقى السؤال المطروح هو هل يمكن أن يكون الفضاء الافتراضي بداية لحل أزمة المختلفين جنسيا في تونس أم هو تعميق للأزمة ومصدر جديد لانتهاكات أكبر وأبشع؟؟

الضمانات القانونية كافية أم واهية؟؟؟

 في هذا السياق، تؤكد المحامية الأستاذة إيناس جعايبي على أن القوانين الراهنة في تونس  لا توفر الحماية المطلقة للمختلفين جنسيا، رغم أنها تمنحهم حق التقاضي في حال تعرّضوا إلى انتهاكات أو اعتداءات لفظية أو مادية، إلا أنها في المقابل تضعهم في مواجهة قضايا من صنف “اللواط” و”المساحقة”، و هو ما يجعل الأغلبية من العابرين جندريا يتجنبون رفع القضايا أو حتى الإعلام بما يتعرضون إليه من انتهاكات.

واعتبرت الأستاذة الجعايبي أن اختيار الفضاء الافتراضي للتعبير أكثر عن ميولاتهم الجنسية والظهور بأكثر حرية وأمان ليس صحيحا، على اعتبار أن ما يتعرّض إليه المختلفون جنسيا من انتهاكات سيبرنية أعمق وأفضع من الفضاء العام لأنهم يواجهون موجات سخرية وتنمّر وتحرّش وعنف لفظي لا يمكن حصرها أو تجاهلها. المطلوب لحماية حقوق المختلفين جنسيا هو مراجعة قانونية عميقة والعمل أكثر على تكريس ثقافة الاختلاف ودعم الحقوق الجنسية.

الفضاء الافتراضي..بداية الحل أم مضاعفة الأزمة؟؟؟

من جانبها تؤكد المستشارة القانونية للجمعية التونسية للوقاية الايجابية ATP+ الأستاذة آمنة الشعباني أن الحقوق الجنسية في تونس مازالت من المواضيع المسكوت عنها والمهمّشة من كافة الأطراف، وذلك نظرا لطبيعة المجتمع المحافظ بغاية الدين أو العادات والتقاليد، مما يجعل الخوض في مثل هذه المواضيع أمرا حساسا بعض الشيء وذلك لعدم قابلية الناس للحوار والنقاش فيه، حتى أن ردود فعلهم تكون بعض الشيء عنيفة، كما اعتبرت أن الفضاء الافتراضي هو فضاء غير آمن كما تبيّن المدة الأخيرة سواء للنساء أو للأطفال وكذلك للأشخاص المثليين، فقد أثبتت الدراسات أن العنف السرياني أو السيبرني  هو خطر محدق يهدّد الجيل الحالي بمختلف تنوعه. فالأشخاص المثليين يعانون على المنصات الرقمية من الهرسلة، التنمّر، التشهير، الوصم والتمييز وكافة أشكال العنف حتى أكثر من بقية الفئات.

وأضافت أن مجهودات المجتمع المدني وحدها لا تكفي للدفاع عن حقوق الأشخاص المغايرين جنسيا، إذ القانون يجرّم هؤلاء الأشخاص في دولة تمارس عليهم عنفها الشرعي، كما يمارس عليهم المجتمع الوصم والتمييز والعنف بكافة أنواعه ما يجعل حياتهم مستحيلة في تونس، إذ يجدون صعوبات في الوصول إلى خدمات الصحة والمعلومة والحياة العملية والدراسية فإن بعض الفصول والقوانين  التي تجرّم المثلية الجنسية تكون عائقا لهم ولهن لممارسة حياتهم بالطريقة العادية، وبالتالي يكون دور الدولة في تغيير سياساتها في خصوص هذا الموضوع هو أمر جوهري ولابد منه.

  يجمع أغلب المتدخلين معنا في هذا الموضوع من علماء نفس واجتماع وخبراء في القانون على أن الأرضية المجتمعية في تونس هي أرضية اقصائية وعنصرية بالأساس، فالقوانين الردعية على أهميتها لم تنجح في تعديل الانطباع العام وثقافة قبول الآخر، بل عمّقت أزمة المختلفين جنسيا وجعلت منهم موضوع دراسة وتحليل إلى اليوم. ويقوم الأمن  التونسي بإلقاء القبض على الأشخاص المختلفين واعتقالهم بسبب مظهرهم أو موقف يعبّر عن هويتهم الجنسية أو الجندرية. كما تستمر المحاكم أيضًا في تطبيق الفصل 230 من المجلة الجزائية الذي يعاقب بالسجن لمدة 3 سنوات مثليي ومثليات الجنس، وتطبيق الفصول 226 وما يليها لتمديد القمع لأي فعل أو موقف يتعارض مع “الأخلاق الحميدة” و”يخدش الحياء”.

وعلى الرغم من التزام السلطات التونسية بالتوقف عن استخدام الفحوص الشرجية لإثبات “اللواط” وذلك منذ سنة 2017، فإن المحاكم تواصل في الإذن بهذه الممارسة التي تُعتبر دوليًا ممارسة للتعذيب، وهذا ما  تضمنه بيان الرابطة  التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في 2019.

“الهيموفوبيا” يصنعها المجتمع ويتبنّاها العابر الجندري…

علم النفس الجنسي يرى الموضوع من زاوية أخرى رغم إقراره بصعوبة وضعية العابرين جندريا في تونس وما يعانونه من حالة إقصاء ووصم نجح حسب تصريح الأستاذ في علم النفس الجنسي أنس العويني خلال حديثه معنا، في دفع البعض نحو محاولة الإنتحار، ليتضاعف الرقم بخمس مرات مقارنة ببقية أفراد المجتمع، وهو ما يدقّ ناقوس خطر ويجعلنا جميعا مسؤولين على معالجة هذا الموضوع على حساسيته. نحن نتحدث عن “الهيموفوبيا” التي تجعل الشخص المختلف جنسيا يشعر بالاشمئزاز وكره لمحيطه بسبب ما يتعرّض له من إقصاء وعنصرية، تغذّيها الثقافة المجتمعية التونسية التي ترفض كل ما هو مغاير لها جنسيا رفضا كاملا ومطلقا بتعلة أنه سلوك خاطئ يعتدي على  الأخلاق الحميدة ويهدّد الحياة العامة، وهو في تصور الأغلبية مرض جنسي منحرف يمثل خطرا على الجموعة، ممّا ينجرّ عنه حالة من الاحتقان الداخلي التي تنتاب المختلف جنسيا، وقد تأخذه إلى أمراض نفسية عميقة قد تصل إلى محاولة الانتحار.

ولا يستثني الأستاذ العويني الشخص المختلف جنسيا من مسؤولية  انتهاك حقوقه، بل يطالبه بأن يكون أكثر صلابة وتمّسكا بخياراته وميولاته والدفاع عنها بفرض نفسه صلب المجتمع، وبعدم الوقوع في ممارسة سلوكات قد تكون لها نتائج مرضية أو نفسية أو سلوكية سيئة، على غرار ممارسة الجنس دون حماية أو الإدمان أو غيرها من التصرفات، داعيا إلى ضرورة أن يكون المختلف جنسيا عنصرا فاعلا في المجتمع وإيجابيا، يضيف للمجموعة داخل الفضاء العام دون الهروب إلى فضاءات أخرى يمكن أن تعمّق الأزمة وتخلق لها تهديدات جديدة على غرار الفضاء الافتراضي الذي يمكن أن يرى فيه العابر الجندري ملاذا وأكثر أمانا للتمظهر والتعبير عن الذات بعيدا عن التواصل المباشر في الفضاء العام.

الفضاء الافتراضي جزء من الحلّ لكسر الحاجز النفسي!!!

قد يكون الفضاء الافتراضي جزءا من حل  لأزمة شاملة وعميقة، وحلّا من مجموعة حلول نسبيا، لكنه ليس هو المطلوب حسب تقدير الأستاذ العويني، بل إن الحل الأنسب والأنجع لحماية حقوق العابرين جندريا تفرض بالضرورة تغيير القوانين ووضع قوانين جديدة تفرض حرية اختيار الهوية الجنسية التي لا يملك فيها المختلف أيّ مسؤولية أو اختيار، بل هي فيزيولوجية نفسية، مع سنّ قوانين ردعية تجرّم كل اعتداء أو تنمّر أو انتهاك يمارس على الأشخاص المختلفين جنسيا مهما كان مأتاه ومعاقبة المعتدين حتى لا يتسنّى لغيرهم تكرار هذه الممارسات العنصرية.

وبالإضافة إلى الحل التقني القانوني، يراهن أستاذ علم النفس الجنسي أنس العيوني على تغيير الثقافة المجتمعية، وجعل من موضوع الحقوق الجنسية سياسة دولة ورهان مجتمعي حتى نتدارك الواقع الحالي، ونتجنب الأمراض النفسية التي يسقط فيها أغلب المختلفين جنسيا بفعل أسباب وعوامل خارجية، وحتى لا يغادر المختلف الجنسي الفضاء العام نحو فضاء افتراضي قد يسحبه إلى انتهاكات أفضع بأقل معايير حماية.

يحتاج موضوع الحقوق الجنسية في تونس اليوم إلى “ثورة” قانونية ومجتمعية ونفسية عميقة لتعيد رسم ملامح مجتمع يقبل الاختلاف والمختلف دون خلفيات دينية أو أخلاقوية أو حتى أيديولوجية، وحتى يتسنى لكل إنسان ممارسة حريته الفردية وحقوقه الجنسية بعيدا عن أي ضغوطات أو إملاءات خارجية يفرضها المجتمع.

التحديات الاجتماعية تمنع الإختلاف …

اجتماعيا، يبقى موضوع الحقوق الجنسية محور نقاشات عديدة محليا ودوليا مع المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان حسب الأستاذة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم التي شدّدت على أن الحقوق الجنسية في تونس تبقى موضوعا مسكوتا عنه، ومن المواضيع المرفوضة مجتمعيا بمنطق أخلاقوي ديني، وهو ما يجعل مهمة معالجة هذا الموضوع  صعبة للغاية.

فالمجتمع التونسي لا يقبل الاختلاف و المختلف مهما كان فما بالك بالمختلف جنسيا، فهو يرفضه رفضا قطعيا على أساس ديني أخلاقي، خاصة وأن المجتمع يضع مجموعة من الضوابط العامة وكل شخص يخرج عنها يتم رفضه وإقصاؤه ويرفض التواصل والتعامل معه، وهو ما يجعل المختلف جنسيا يهرب من الفضاء العام نحو الفضاء الافتراضي بحثا عن فضاء أكثر أمانا وأريحية.

واعتمادا على الدراسات الاجتماعية،فإنه على حد تعبير الأستاذة بن بلقاسم فإن ثقافة قبول الآخر مهما كان مختلفا جنسيا او فكريا تنبع من التربية أساسا وخاصة التربية الجنسية التي اقترحت في وقت ما وتم رفضها وهي الحل أو المنطلق لتأسيس عقلية مجتمعية جديدة تتعامل مع العابر الجندري على أنه إنسان عادي له حقوق وحريات كغيره من افراد المجتمع، تماما كما هو الحال بالنسبة للدول الغربية التي تتعامل مع الانسان بكونه إنسانا بغض النظر عن ميولاته او اختياراته او تمظهراته.

وترى الأستاذة بن بلقاسم في “هروب” العابر الجندري من الفضاء العام نحو الفضاء الافتراضي تجسيدا لحالة الرفض التي يتلقاها من محيطه والتي لا يمكنه مواجهتها أو التعايش معها، فيجد في الفضاء الافتراضي على غرار مواقع التواضل الاجتماعي ملاذا أكثر أمانا وأريحية للظهور والتعبير عن ميولاته الجنسية واختيار محيطه الاجتماعي وتحديد علاقاته ومعاملاته، فهو من يضع قانونه الخاص في هذا الفضاء ولا يسمح لأحد بالاعتداء عليه جنسيا أو أخلاقيا أو لفظيا، وهذا يمكن أن يكون ملاذا آمنا رغم بعض الانتهاكات اللفظية التي قد تعترضه و التي يمكنه تجاوزها من خلال تفادي قراءة التعليقات أو الرسائل الخاصة أو غيرها من الممارسات التمييزية المنتشرة في الفضاء الافتراضي.

ويذهب علم الاجتماع في هذا السياق تحديدا حسب الأستاذة نسرين بن بلقاسم، إلى الدفع نحو تركيز ثقافة التربية الجنسية في الأسرة والمدارس أولا حتى يتشبّع الفرد بالتربية على قبول  الآخر و التواصل معه بمعزل عن كل معايير الاختلاف سواء الجنسية أو الفكرية أو الجنسانية، ومنه ينطلق العمل على الجانب القانوني الردعي بوضع قوانين تحمي المختلفين جنسيا على حدّ السواء مع بقية أفراد المجتمع.