بنزرت، من الحبيب العربي..
عشية يوم أمس الخميس، كان الموعد مع اللمّة الخامسة لفضاء البوليفار الثقافي ومديره المسرحي أوس ابراهيم..
حضرنا اللقاء وكان موضوعه “الإستثمار الثقافي الخاص: الصعوبات والإيجابيات”..
موضوع يشد أنفاس المثقفين في بنزرت عامة، هؤلاء الذين لا يقطعون عن القول بأن قطاع الثقافة في بنزرت مشلول دون أن يفصحوا لنا عن نوع الشلل الذي يعاني منه القطاع الثقافي ودون تحديد أسباب ذلك الشلل ولا البحث عن كيفية معالجته..
يوم امس، لم يحضر المثقفون، كالعادة..
ويوم امس، كانت فكرة اللمّه جيّدة إلا انه لم يتم “التسويق” لها إعلاميا، فلم يكت عدد الحاضرين كبيرا. الحاضرون كانوا شبانا من رواد فضاء البوليفار في معظمهم..
وقبل أن نخوض في الموضوع الرئيسي للمّة يوم أمس، دعوني أتوقف عند ملاحظتين حول اللمّه في حد ذاتها..
المسرحي أوس ابراهيم وجماعة المنظمين معه لهذه التظاهرة الجيدة في فكرتها أطلقوا علبها اسم “لمّة البوليفار”.. وأنا أحبّذ لو انهم اختاروا لها عبارة أخرى غير اللمّه، لأن هذه الأخيرة لا توحي بالجدية في تناول المواضيع بقدر ما توحي بالدردشات العابرة…
وفي الدردشات لا أعتقد أن مسؤولا في إدارة رسمية من مستوى معيّن يقبل أن ينزل ضيفا على بعض حلقات اللمّة..
غيروا عبارة “اللمّة” بلقاء أو منتدى أو أمسية مثلا..
الملاحظة الثانية هي المتعلقة باسم الفضاء في حدّ ذاته..
اسم فضائكم مترجم عن الفرنسية.. والفرنسية انتم قسّمتم العبارة فيها إلى عبارتين حيث تكتبون “Boulev-Art”.. وعليه حين تكتبونه بالعربية لا بد أن تكون الكتابة على النحو التالي “بولاف-آر”..
أعود الآن إلى اللمّة الخامسة في سلسلة الفضاء المذكور فأقول أن فكرة استضافة شاب مسرحي بادر بالاستثمار في فضاء مسرحي خاص، هي جيّدة، وحديثه عن مغامرته بالإستثمار في هكذا مشروع إنما هو مفيد لكل الشباب الحاضر في اللمّه والحالم بدوره بتحقيق إنجازات مشابهة..
الشاب المستثمر هو محمد البركاتي البالغ من العمر 31 سنة والمتخرج من مدرسة التمثيل بالمسرح الوطني بالعاصمة..
محمّد البركاتي هو المهوس بالحراك المسرحي منذ صباه، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن “قُربه” مدينة مسرح الهواية في بلادنا منذ سبعينيات القرن الماضي..
محمّد البركاتي وبعد مروره بمحطات عديدة في مسيرته الفنية بين قُربه والعاصمة وبنزرت، استقر به الرأي على تأسيس فضائه المسرحي الخاص قبل اربعة اعوام وقد أسماه “piccolo teatro di Bizerta”..
وبقدر ما أحيّي في هذا الشاب اندفاعه في خدمة المسرح في بنزرت تكوينا للشبان وإنتاجا لأعمال مسرحية، بقدر ما أدعوه إلى عدم الوقوع في فخ التجارة والربح في مجال هو فني بالأساس..
والفن لا يخضع إلى قواعد التجارة التي تقول ان واحدا مع واحد يساوي اثنين هما راس المال، مع واحد هو هامش الربح..
فالفكر التجاري كلما دخل ميدانا، هو فكري ربحي بالأساس، كلما جعل المادة طاغية عليه..
ولنا في هذا الأمر مثال في بلادنا..
مثال الرياضة وخاصة منها كرة القدم،
فحين كانت اللعبة تُمارَس بعنوان الهواية والغرام وإبراز المواهب، كان لنا لاعبون ورياضيون مهاريون أحرزوا عديد التتويجات في التنظيمات العالمية..
وحين دخلت لغة الإستثمار في الرياضة، لاحظوا كيف أننا صرنا بلا لاعبين فنانين قادرين على إمتاعنا بمهاراتهم في ميادين الكرة بأنواعها وفي المسابح وفوق المضمار وعلى ركح الملاكمة والمصارعة والمبارزة بالسيف وما إلى ذلك..
نفس الشيء نقوله عن فن المسرح الذي هو أب الفنون، فنحن في بلادنا، حين كانت الهواية هي الرائدة في ساحتنا الفنية المسرحية كان لنا ممثلون كبار في الإسم والمسيرة وكان لنا حضور متميز في المحافل الدولية..
وحين فرّطت الدولة في المسرح للخواص وفتحت لهم باب الإستثمار الربحي، لم تعد تنجح في مهمتها إلا الشركات ذات الدعم المادي الكبير من بعض رجال الأعمال، وباقي الشركات الكثيرة المؤسسة من طرف متخرجين من المعهد العالي للفن المسرحي، صارت رهينة دعم وزارة الثقافة لإنتاجاتها..
ودعم الوزارة هو في حد ذاته فُتات لا يسمن ولا يُغني من جوع..
بالقياس على ما ذكرت، اقول لكل من له ذرة واحدة من الإبداع الفني :
“إياكم وقتل إبداعكم ومهاراتكم بالجري وراء الربح في مجال يمثل فيه “الكِيف” رحيق الحياة..
أيضا اقول لهم جميعا :
“إذا أردتم أن تنجحوا في مشاريعكم الإستثمارية عليكم بمعرفة أسباب انتشاركم عبر الرأي العام بانتهاجكم سياسة الحوكمة في التخطيط والبرمجة على المديين المتوسط والطويل..
“انتشاركم رهين المستوى الفني لما تنتجون..
فلا تقولوا أن عصرنا هذا هو عصر الإضحاك بأي شكل من الأشكال حتى لو كان على حساب الأخلاق الحميدة..
فالأعمال التي ترتكز على التهريج والصعود بالعبارات السمجة الى الركح، ليست هي المقياس الحقيقي للنجاح الفني، والذاكرة لدى الإنسان تحفظ الأعمال ذات القيمة الفنية وتنسى سريعا حركات السقوط بالفن لمستوى التفاهة من أجل إضحاك حيني..
“أيضا، لكل من يريد الإستثمار في الإنتاج المسرحي، عليه أن يدير فضاءه الخاص كشركة بها كل مقومات النجاح في كل تحرك بهذا الإتجاه أو ذاك، من ذلك أن يكون الفاعلون ذوي اختصاص في مجالهم الفني والإداري والتصرف في المالية وكذلك في مجال الدعاية والإعلام..
خلاصة القول :
نشد على أيدي أصحاب المبادرات في المجال الفني وندعو وزارة الثقافة إلى منحهم الاولوية في تبنّي إنتاجاتهم كما ندعو الدولة إلى تيسير حصولهم على الإمتيازات التحفيزية لهم كي يطوّروا مشاريعهم ويرتقوا فنيا بمستوى ما يقدمون عساهم يساهمون في الرفع من الذوق العام.