وات – (تحرير ليلى بن ابراهيم) – قال القضاء، ليلة الثلاثاء الأربعاء، كلمته في قضية اغتيال السياسي المعارض شكري بلعيد بعد أحد عشر عاما على الجريمة، التي أربكت استقرار البلاد وعصفت بتوازنات المشهد السياسي القائم آنذاك.
وأصدرت الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس أحكاما في حق المتهمين في قضية الاغتيال تراوحت بين الإعدام في حق 4 متهمين والسجن بقية العمر في حق متهمين اثنين آخرين.
كما قضت بعقوبات سجنية في حق عدد من المتهمين في القضية تراوحت بين عامين و120 عاما سجنا.
وبلغ عدد المتهمين في قضية اغتيال 23 متهما، 14 منهم في حالة إيقاف و9 آخرين في حالة سراح.
وكان شكري بلعيد (49 عاما)، المحامي والأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (يسار)، تعرض يوم 6 فيفري 2013 للاغتيال وهو في سيارته أمام منزله الكائن بمنطقة المنزه السادس التابعة لولاية أريانة باستعمال الرّصاص من قبل شخصين كانا يمتطيان درّاجة ناريّة.
بلعيد .. المعارض البارز
وُلد شكري بلعيد (26 نوفمبر 1964 – 6 فيفري 2013) في منطقة جبل الجلود بتونس العاصمة، وهو من عائلة تنحدر من ولاية جندوبة (شمال غرب).
درس الحقوق في العراق وأكمل تعليمه في جامعة باريس ودخل الحياة السياسية مبكّرا، إذ برز بنشاطه في الجامعة وعارض نظامي الرّئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي مما تسبب في سجنه.
كما عمل في المحاماة ونشط في الدفاع عن حقوق الإنسان ورافع في العديد من القضايا السياسية في فترة حكم بن علي، أبرزها قضية أحداث الحوض المنجمي في قفصة سنة 2008.
بعد الأحداث التي أطاحت بنظام بن علي، أصبح بلعيد عضوا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، لكنه لم يفز في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
وتقلّد الأمانة العامّة لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد بتاريخ 2 سبتمبر 2012. كما كان له دور بارز في تأسيس الجبهة الشعبية في نفس العام، وهي ائتلاف سياسي يضمّ 11 حزبا وتجمّعا يساريا وقوميّا.
وكان بلعيد يعتبر من أشد المعارضين لحكومة “الترويكا” (2012 -2014)، المتكونة من أحزاب “النهضة” والتكتّل” و”المؤتمر”، وما فتئ يندد بأعمال العنف التي تستهدف كلّ من يعارضها.
ومن أبرز مقولاته، التي ظلّت راسخة، ما ذكره في مداخلة تلفزيونية حين قال قبل يوم واحد من اغتياله : “سيلجؤون إلى العنف كلّما زاد اختناقهم .. كلما زادت عزلتهم السياسيّة، وكلّما تقلّصت شعبيتهم .. إياكم والانجرار إلى مربع العنف .. العنف لا يخدم إلا الرجعية، لا يخدم إلا حركة النهضة “.
الاغتيال المنعرج ..
وقع اغتيال بلعيد يوم 6 فيفري 2013 في سيارته أمام منزله بإحدى مناطق ولاية أريانة بعد أن أطلق عليه شخصان يمتطيان دراجة نارية الرّصاص، وفق ما ذكره شهود عيان آنذاك.
ويومها، دخلت البلاد في حالة فوضى وعدم استقرار وخرج متظاهرون، من مواطنين ومحامين وسياسيين وناشطين بالمجتمع المدني، بأعداد غفيرة إلى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة مرددين النشيد الوطني وشعارات ” ديغاج (ارحل) .. العصيان، العصيان حتى يسقط النظام .. والشعب يريد إسقاط النظام”، ووقعت مواجهات مع قوات الأمن في أحياء بتونس العاصمة ما أدى إلى مقتل القيادي الأمني لطفي الزار.
كما قامت مظاهرات في عدة مدن تونسية أخرى تنديدا بعملية الاغتيال، وأحرق متظاهرون مقرات حركة النهضة في عدد من جهات البلاد، على غرار المنستير وسوسة والكاف وقفصة، وتعطّلت الدروس بمختلف المعاهد والمدارس.
ووجّهت عائلة شكري بلعيد أصابع الاتهام مباشرة إلى حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، وقالت إن “النهضة” تستّرت على العنف ضد معارضيها.
في المقابل، رفضت الحركة التهم وقال الغنوشي في هذا الشأن :”هناك أطراف تريد جرّ تونس نحو “حمّام دم”، فيما ذهب الرئيس المؤقّت آنذاك المنصف المرزوقي إلى القول أمام البرلمان الأوروبي إن “الاغتيال يهدف إلى إجهاض الثورة التونسية”.
وألقت حادثة الاغتيال بظلالها على المشهد السياسي وعلى الحكم، الذي كان يعيش وقتها أزمة متفاقمة، إذ أعلن رئيس الحكومة المؤقتة حمادي الجبالي (2013) أنه سيشكّل حكومة كفاءات وطنية.
وفي هذا السياق المشحون، قررت أكبر المنظمات العمالية في البلاد، الاتحاد العام التونسي للشغل، تنفيذ إضراب عام وإقامة جنازة وطنية لبلعيد.
واضطربت رحلات الخطوط الجوية التونسية من وإلى تونس بسبب الإضراب العام يوم 8 فيفري.
ودعت أحزاب المعارضة الممثلة في المجلس الوطني التأسيسي إلى تعليق عضويتها بالمجلس.
كما قررت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أن يكون يوم 8 فيفري 2013 يوم إضراب للصحفيين.
بدورها، أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تعليق الدروس يومي 8 و9 فيفري. وتعطلت أيضا الدروس بأغلب المعاهد الثانوية والمدارس الإعدادية والابتدائية.
وأعلن القضاة والمحامون الدخول في إضراب يومي 7 و8 فيفري وندّدوا بالجريمة البشعة وبالمنزلق الخطير نحو العنف السياسي والتصفيات الجسدية التي اعتبروها ” غريبة عن المجتمع التونسي”.
ونددت مكوّنات المجتمع المدني والمنظمات الوطنية بعمليّة الاغتيال ودعت إلى القيام بوقفات احتجاجية والمشاركة في الإضراب العام الذي أقره اتحاد الشغل.
وقال مفتي الجمهورية التونسية آنذاك، عثمان بطيخ، في بيان أصدره في 7 فيفري 2013، “إن قتل النفس البشريّة جريمة تأباها كل الأديان والأعراف والقوانين”.
ولاقت جريمة الاغتيال إدانة دولية، ووصفت دول مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا والجزائر الجريمة بـ”الجبانة والوحشية” وقالت إنها تهدف إلى “زعزعة الاستقرار في تونس”.
وانتظمت يوم 8 فيفري 2013 جنازة وطنية شاركت فيها حشود غفيرة، إذ نقلت عربة عسكرية جثمان الشهيد بلعيد من بيت والده بجبل الجلود إلى دار الثقافة بالمنطقة ومن ثمّة نحو مقبرة الجلاز بتونس العاصمة، قبل مواراته الثرى بروضة الزعماء.
ووقعت مناوشات ومواجهات، في محيط المقبرة، حيث أطلقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع على شبان أرادوا سرقة سيارات المشيّعين وقاموا بحرق بعضها.
وأقام مواطنون جنازات رمزية لبلعيد في عدة مدن تونسية، مثل صفاقس والرديف وقابس وجندوبة وسيدي بوزيد وسوسة والمهدية وباجة والكاف وسليانة ومنزل بوزيان والمزونة وبنزرت وفريانة وجرجيس وجبنيانة والمنستير.
وكان اغتيال بلعيد ومن بعده اغتيال النائب المعارض بالمجلس الوطني التأسيسي عن حزب التيار الشعبي محمد البراهمي في جويلية 2013 وراء سقوط حكومتي الترويكا 1 و2 بقيادة حركة النهضة.
وجرى إطلاق حوار وطني وقع فيه الاتفاق على تشكيل حكومة “تكنوقراط” أمنت وصول البلاد إلى انتخابات 2014.
الإرادة السياسيّة ..
عرفت قضية اغتيال بلعيد” تعطلا في مسارها واتهمت هيئة الدفاع وعائلة الشهيد من في السلطة، وتحديدا حركة النهضة، بالتدخل في المسار القضائي حتى لا تنكشف حقيقة من خطط ودبر وصولا إلى من نفذ الجريمة.
ويقول عبد المجيد بلعيد شقيق الشهيد شكري بلعيد، لـ(وات)، إنّ المحاكمة كانت “رهينة توفّر الإرادة السياسيّة، وهذه الإرادة كانت مفقودة في السنوات الماضية لتورّط أشخاص في السلطة في عمليّة الاغتيال”.
وأشار إلى “وجود فرق كبير بين هيئتي المحكمة القديمة والجديدة في التعامل مع الملف”، مضيفا قوله “هيئة المحكمة الحالية تتمتّع بالحرفيّة ومتمكّنة من جزئيات الملف ممّا يجعله في الطريق الصحيحة”.
ويتابع ” اليوم فعلا السلطة السياسية واضحة، والإرادة السياسية لكشف الحقيقة واضحة بعد أن فرض رئيس الجمهورية ضرورة أن تكون المحاكمات في حيّز زمني معقول وعادلة”.
وكان الرئيس قيس سعيد قال، يوم إعلانه حل المجلس الأعلى للقضاء، إن ” القضية بقيت لسنوات عديدة في رفوف المحاكم، ووقع التلاعب بها من قبل عدد من القضاة الذين لا مكان لهم في قصور العدالة إلا كمتهمين”.
والتقى رئيس الجمهورية، يوم 7 فيفري 2022، والد الشهيد شكري بلعيد، وشقيقه، عبد المجيد، الذي صرّح بأن المحادثة “تطرقت إلى موضوع كشف حقيقة الاغتيال، ومحاسبة المتورطين في إطار تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، واحترام استقلالية القضاء”.
وقرّرت وزيرة العدل يوم 6 فيفري 2023 تكوين لجنة خاصة تعمل، تحت إشرافها المباشر، على متابعة ملفي اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي ومحاسبة كل من تورط في تعطيل سير الملفات وسعى إلى طمس الأدلة والتأثير على المسار القضائي.
وأذنت بمهمة تفقد قضائي وإداري شاملة للملفات ذات العلاقة، لمتابعة حسن سير الإجراءات بما في ذلك إحصاء المحجوز والمؤيدات بكافة مكوناتها وتتبع مسارها الإجرائي بالإضافة إلى رقمنة كامل الملفات وحفظها في محامل الكترونية.
ومنذ تاريخ 6 فيفري 2024 تتالت جلسات الدائرة الجنائيّة المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب بابتدائية تونس لمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال بلعيد.
وجرى خلال هذه الجلسات الاستماع إلى لسان الدفاع عن القائمين بالحق الشخصي وعن المتهمين لتنتهي اليوم الثلاثاء (26 مارس 2024) بالاستماع إلى “أعذار” المتهمين وحجز القضيّة قبل إصدار الحكم في أولى قضايا الاغتيال السياسي في تونس ما بعد الثورة.