ثقافة وفن.. بنزرت من الحبيب العربي

 موضة جديدة نعيشها في هذا العصر الموصوف بالتكنولوجيا والأنترنات وبوسائل الإتصال الإجتماعي.. موضة تتمثل في إقدام العديد من الأفراد على التجول بهواتفهم النقالة ينقلون لعامة الناس ولأصدقائهم على الخصوص صور ومظاهر من عديد الجهات داخل البلاد التونسية ومن عديد البلدان الأخرى التي يزورونها واصفين انفسهم بالرحالة الكثيري السفر والترحال.. هم مشكورون عل  ذلك، لكن عيبهم الكبير أنهم يقومون بالتوثيق “الوقتي” عبر الصورة والصوت.. وحال انتهائهم من التصوير او التجول لا نجد لهم أثرا.. فهل هكذا يكون الترحال ونقل الخبر عن الأماكن البعيدة التي لا يقدر الإنسان العادي ذو الإمكانيات المادية والمالية المحدودة على زيارتها ؟.. أبدا.. ليس ذلك هو التوثيق الأصلي في ما يصورون ويسجلون وينقلون.. الصواب الأحق هو أن يتركوا أثرا من بعد مرورهم يقرأه او يطلع عليه المتابعون.. وفي هذا السياق، نحن لا نجد الكثيرين من هؤلاء الذين يوثقون بالكتابة مثلا حلّهم وترحالهم في مختلف بلاد العالم.. فالتاريخ في البلاد العربية يذكر المغربي ابن بطّوطة…

إذن، للعرب في السابق ابن بطّوطة.. ويمكن القول الآن ان لنا في تونس رحّآلة جديد بدأ مغامرة بسفره ورحيله ورحلاته الإستكشافية منذ نحو خمسين عام، أي منذ أن كان طالبا بفرنسا حيث بدأ تنقلاته داخل فرنسا من مدينة إلى أخرى، وفي أوروبا، من بلد إلى آخر، عبر التنقل على القدمين في بداية مغامرته وعلى متن دراجة هوائية بعد ذلك مستعينا بخدمات “الأوتوستوب”.. وحال انتهاء مرحلة دراسته الجامعية في فرنسا وعودته إلى تراب الوطن، حنّ إلى تلك المغامرات والتنقل بين الأماكن التي لم يكن يعرفها فقرر العودة للأسفار انطلاقا من مطار تونس قرطاج..

وفي هذه المرحلة  الجديدة من مغامراته، كان يختار البلدان التي يزورها على اساس أنها غير معلومة لدى عامة الناس.. وكل بلد يزوره، كان يذهب فيه إلى المدن والمناطق ذات الإثارة، إما من حيث تاريخها المميز او من حيث عادات وتقاليد عيش أهاليها…  وعليه هو زار 62 دولة بالتمام والكمال.. زار بلدانا في أوروبا والشرق العربي والقارة  الأميركية وكذلك القارة الافريقية وبلدان اليابان والصين وأستراليا وغيرها في أقصى شرق الكرة الأرضية…  وخاصيته في تنقلاته هو أنه كان يوثق كل اكتشافاته في الأماكن التي يزورها وكل ما يقف عليه من سلوكيات وعادات الشعوب عبر ما يحرره من مقالات وتعاليق وانطباعات ضمّنها فيما بعد في مؤلفات  بعضها طُبع ونُشر في كتابين، وبعضها الآخر مازال ينتظر المؤلّف الثالث وما يليه لاحقا من كتب.. أنا أتحدث هنا عن الرجل الجمعياتي الكبير، ادريس الشريف، رئيس جمعية صيانة الشريط الساحلي ببنزرت وصاحب المؤلّفين * Raconte-nous ta jeunesse et tes voyages..   * La vie et le monde vus pa itinérant curieux..  كلا المؤلفين باللغة الفرنسية حررهما المؤلّف ادريس الشريف بأسلوب سلس ومُغر يحكي فيه عن نشأته في “حومة الشّرْفة” وهو ابن الجزار المعروف بكرمه في أوساط بنزرت العتيقة.. يحكي فيهما أيضا عن الناس  الذين عاشرهم في الصبا في “الحُومة العربي” كما في المدرسة الإبتدائية والمعهد الثانوي.. كما هو يحكي عن البلدان التي زارها وخصوصياتها الطبيعية وإنجازات أهاليها لتخليد حضاراتهم على مرّ العقود والعصور…

 المؤلّف الأول صدر سنة 2022 والثاني في أواخر 2023 عن دار “زينب للنشر والتوزيع” بتونس.. وإذا كان الحديث شيقا دائما كلما كانت بنزرت التي يعرفها جيل اليوم هي المتحدث عنها، فإن ما يشد القارئ في هذين المؤلّفين التوثيقيين ما ينقله صديقنا المؤلف عن بعض ممارسات وعادات الشعوب التي زارها والتي يختلف فيها نمط العيش لديهم عن نمط العيش في بلادنا.. والجميل ان ادريس الشريف  كلما زار بلدا وصادف أن كانت فيه تظاهرة شعبية وجماهيرية إلا ويشارك فيها حاملا راية تونس معه ورافعا علمها وشعار مدينة بنزرت…

 ومن بين ما يُحسب في رصيد ادريس الشريف أنه اول من اكتشف في بلادنا، وفي معتمدية بنزرت الجنوبية من ولاية بنزرت، منطقة “راس انجله” الأكثر تقدما في شمال البحر المتوسط لتقابل منطقة كاب أقولا بدولة إفريقيا الجنوبية في أسفل القارة السمراء وهي الأكثر تقدما في المحيط هناك.. ففي سنة 2014، كان له فضل عرض ما ذكرنا من اكتشافه على وزيرة السياحة آنذاك، أمال كربول، التي تحمست للاكتشاف وتبنّت فكرة النهوض بتلك المنطقة الجميلة التي ما تزال عذراء ليومنا هذا… وقد كانت قالت إنها تريد أن تصنع من “راس انجله” قطبا سياحيا هاما يقابل قطب كاب أغولا في إفريقيا الجنوبية.. لكن للأسف الشديد  كل ذلك الكلام كان بمثابة كلام الليل “المدهون بالزبدة” وقد أتت عليه شمس النهار فذابت زبدته واندثر أثره..

 المؤلف الثاني لادريس الشريف كان محل عرض وحديث ومحاورات في الأيام القليلة الماضية آخرها سمر جمعية صيانة المدينة ببنزرت ضمن مهرجان ليالي المدينة في شهر رمضان الفائت.. في تلك السهرة، غص فضاء سيدي جلّول بالحاضرين الذين تمتعوا بكل ما رواه في كتابه ادريس الشريف.. المتعة كانت كبيرة والأجواء كانت حميمية ولطيفة وقد شارك فيها بالإضافة الرحالة الآخر، رئيس جمعية قدماء معاهد بنزرت، الأستاذ عبد الواحد عزيب.. وفي آخر السهرة، اقتنى الكتاب من اقتنى من الحاضرين فأمضى له ادريس الشريف نسخته وعاد الجميع لبيوتهم قبل موعد السحور بساعتين وفي أذهانهم رحلة قاموا بها إلى القارتين الأمريكية والآسياوية كما روى تفاصيلها ادريس الشريف وأقل منه ببعض القدر عبد الواحد عزيب دون أن يكونوا قد غادروا مدينتهم التي لا جمال لمدينة أخرى في تونس وفي الحوض المتوسطي يضاهي جمالها…

 الحبيب العربي