بنزرت من الحبيب العربي..

كلمة بالمناسبة..

في الذكرى 61 لعيد الجلاء..

اليوم الذكرى 61 لمغادرة آخر الجنود الفرنسيين المستعمرين لبلادنا..
في مثل هذا التاريخ من سنة 1963، غادرت فرنسا، مهزومة، مدينة بنزرت، آخر قلعة عسكرية لها على تراب بلادنا..
منذ ما بعد ظهر يوم الثلاثاء 15 اكتوبر، بدأت البواخر الحربية للمستعمر تغادر الثكنة العسكرية بالمصْيده من مدينة بنزرت..
كانت تغادر عبر القنال واحدة بعد أخرى مُحمّلة بجنودهم وعائلاتهم..
يومها، كنت ادرس بالثانية من التعليم الإبتدائي في مدرسة سيدي عنان ببنزرت، ومعلمي المرحوم مصطفى الغطّاس..
ويومها، الثلاثاء، خرجنا من المدرسة بعد حصة العشية في حدود الساعة الرابعة وقد قالوا لنا أن نذهب مباشرة للقنال ونعاين المغادرة التاريخية لفرنسا ارضنا..
وأنا الطفل الصغير الذي كنت اقطن جرزونه، ومحفظتي الثقيلة المتواضعة تحت إبطي، توجهت جريا إلى ما بين البطّاحيْن حيث وجدت الناس متراصّين نساء ورجالا.. شيبا وشبابا.. يتفرجون على البواخر الحربية العسكرية وهي تغادر وفوقها عساكر يحيّون لست ادري ماذا ورجال ونسوة بالزي المدني يلوحّون بالمناديل لمن كانوا يرمقونهم من أبناء شعبنا على ضفتَي القنال.. وكان بوق بلدية بنزرت يذيع اغنية المرحومة عُليّه “بني وطني”..
وأذكر أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كان قد خطب في الإذاعة التونسية، الإذاعة الوطنية الآن، قبل أيام من موعد 15 أكتوبر 63 قائلا للشعب التونسي “إياكم أن تطلقوا “البَنّي بْنّي” في احتفالكم بخروج المستعمر مخافة أن يظن عسكرهم أننا نطلق عليهم الرّصاص..
غادروا إذن وحملوا كل عتادهم وأسلحتهم واجهزتهم.. غادروا بنسائهم ورجالهم.. وتركوا أرضنا بدون رجعة بعد مقاومة وطنية انطلقت في الجبال عن طريق الفلاّقه ثم نزلت للمدن فكان ما كان من تضييق الخناق على الجندي المستعمر وعلى المُعمّر الفرنسي والإيطالي والمالطي وما إلى ذلك ممن مكنتهم فرنسا من أراضينا الفلاحية الغنية بكل الخيرات..

مقاومتنا التي صارت مسلّحة قتلت من قتلت من جنود فرنسا ومُعمّريها.. واستشهد من استشهد من ابنائنا..
حتى انتهى الأمر بحرب بنزرت او كما يسمّيها الملاحظون والمؤرّخون “حوادث بنزرت” بداية من الإربعاء 19 جويلية، عند حوالي الساعة الثانية بعد منتصف النهار..
الحرب غير المتكافئة بالمرة بيننا وفرنسا دامت أربعة أيام وقد ذهب ضحيتها من التونسيين العسكريين والعُزّل مئات إن لم نقل آلاف..
فالأرقام كانت متفاوتة فيما بينها لدى الملاحظين والمتابعين وكذلك لدى المؤرّخين..
بعضهم يقول ان عدد من استشهدوا من ابنائنا قارب الثمانمائة.. والبعض الآخر يقول ان العدد قد تراوح بين السبعة والثمانية شهيد..
كانت حربا شرسة في شوارع وأنهج مدينة بنزرت..
كانت حقبة هامة في تاريخ تونس..
وكان نضالا كبيرا من شعبنا بقيادة أبطال سجلوا أسماءهم في مقاومة المستعمر بأحرف من ذهب، أولهم بورقيبة وبن يوسف وحشّاد وغيرهم..
اليوم وكل عام نحتفل بذكرى الجلاء..
بل إن بنزرت وحدها بين كل الولايات والمدن التونسية الأخرى هي التي تحتفل.. وأكثر مظاهر احتفالها منذ نحو عقدين هو قدوم رئيس الدولة لمدينة بنزرت ووضعه أكليل زهور تحت نصب الشهداء بمقبرتهم في حيّ الجلاء من مدينة بنزرت..
رحم الله شهداءنا..
وعاشت تونس حرة منيعة أبد الدهر..

الحبيب العربي.