بنزرت/من الحبيب العربي

معظلة كبيرة في هذه المعتمدية الريفية بامتياز.. ومفارقة عجيبة تثير الإشمئزاز..

تقع معتمدية غزاله في غرب ولاية بنزرت وتحدها من الشرق كل من معتمديتي ماطر وبنزرت الجنوبية وشمالا وغربا معتمديتا جومين وسجنان..
بهذه المعتمدية ليس هناك إلا قطاع الفلاحة منتشرا بين الهضاب والسهول والجبال والأودية..
الأراضي الخصبة في كل مكان..
الرطوبة في الجو على مدار الفصول والماء متوفر بقدر كبير حتى أن سد جومين يوفر ماء الري على طول العام..
مناطق السقوي للخضراوات والغلال الموسمية، البيولوجية منها وغير البيولوجية، تزداد اتساعا رقعتها عاما بعد عام..
المراعي كثيرة.. والغابات أيضا، بما جعل السكان، كل في مسقط رأسه، يقبل على تربية الماشية.. أبقار للحليب واللحم.. أغنام.. وماعز.. وما الى ذلك..
حتى الدواجن لها حضور في كل ضيعة وبيت تقريبا..
الأشجار المثمرة في هذه المعتمدية، حدّث عنها ولا حرج.. زياتين.. وأعناب.. وكروم.. ومشماش وخوخ وتين..
هكذا تقول المعطيات بالأرقام حول هذه المعتمدية وساكنيها..
لكن، ما لا تقله الأرقام أو هي لا تريد الإشارة إليه هو أن الفقر مدقع في هذه المعتمدية والبدائية سائدة في كل المجالات..لا شيء في كامل منطقة غزالة يوحي بأن التحضر قد بلغ هذه المعتمدية..
كل ما فيها يمكن تصنيفه من الدرجة الثانية أو الثالثة في كل شيء..
ولا منطقة صناعية هناك.. وقد كان أولى أن تنتصب معامل طحن الحبوب وتعليب الخضر وتصنيع المواد الغذائية المستمدة من العجين..
كان لا بد من مستشفى محلي بالمعتمدية أو على الأقل إحداث وحدات استعجالي وتوليد وتصوير بالأشعة للحالات الطارئة..
كان لا بد من ملعب بلدي يتدرب به ويتبارى شباب الجهة..
كان لا بد من عديد المرافق الحياتية والضرورية الأخرى في معتمدية غزالة..
قديما، وفي فترة الإستعمار، اكتشفت فرنسا منجم رصاص في المرتفع الواقع حول التجمع السكني الكبير فجاءت إليه بالعمال من كل مكان ووفرت لهم المستشفى وملعب كرة القدم وفضاءات الكرة الحديدية وقاعة السينما والملهى الليلي..
حتى المسجد للمسلمين والكنيسة للتعبد المسيحي صباح كل أحد وفرها المستعمر الفرنسي هناك..
المدرسة أيضا تأسست منذ بدايات القرن الماضي هناك، ومدرسة المنجم التي ما تزال فاتحة أبوابها إلى الآن شاهدة على كل ما نقول..
ولما جاء الإستقلال، وبعد سنوات قليلة فقط، أغلق المنجم أبوابه فاندثرت كل مظاهر الحياة الكريمة التي كانت من حوله..
وعادت المنطقة شيئا فشيئا إلى بدائيتها فتراجع مستوى المعيشة ونزح وهاجر شباب الأجيال اللاحقة الى جهات ومناطق وبلدان أخرى.. ليبقى من بقي الى الآن في معاناة مع قلة كل شيء وتدني مستوى المعيشة بقدر كبير..
السكان المرابطون الآن في معتمدية غزالة يشتكون من البنية التحتية المهترئة.. معظم طرقاتهم مسالك ريفية حالتها توحي بالكرب.. لا فضاءات تجارية كبرى على ذمتهم.. لا فرع بنكي يسهل عليهم العمليات المالية.. حتى التجمعات السكنية التي برزت حديثا حالها “يشكي لربّي”..
ديوان التطهير لم يحل ركبه بهذه المعتمدية حيث كان بالأماكن أن يقع إحداث محطة تطهير تساعد على تركيز شبكة تطهير التي تمثل أحد أهم مقومات العيش الكريم..
كل هذا، وغير هذا، جعل معتمدية غزالة تصنف وطنيا واحدة من أكثر المعتمديات فقرا في الجمهورية..
هذا التصنيف الذي هو وصمة عار على جبين الحكومات المتعاقبة منذ الإستقلال وإلى الآن جعل السكان يركزون في نشاطهم المهني على الفلاحة، مورد رزقهم الأول، رغم أن أغلبيتهم المطلقة من صغار الفلاحين حيث يربّي كل واحد فيهم خمس بقرات على أقصى تقدير.. وله قطعة أرض صغيرة تكفي صابتها لعولته السنوية..
لكل هذا، إذن، قمت قبل يومين برفقة السيد ابراهيم الغرسلي، رئيس غرفة موزعي الأعلاف بإيتيكا بنزرت، بزيارة لهذه المعتمدية والتقينا بالفلاحين في منطقة الذواوده، حيث رافقنا ابن المنطقة السيد سامي الذوادي الذي جمع لنا أقاربه وأهاليه المربين والمزارعين الصغار فكان أن غادرناهم لنحمل همومهم وانشغالاتهم الى السلطة المحلية والجهوية وحتى الوطنية عسانا نسهم من موقعنا في رفع الستار الحاجب لهم عن أعين أصحاب القرار..

صغار المربين : الحلايبي عائش فينا..

الفلاحون والمزارعون الصغار الذين التقينا بهم في عمادة الذواوده حدثونا فقالوا :

نحن يعيش فينا ومنا الحلايبي الذي يأتينا في اليوم مرتين ليجمع منا الحليب الذي تدره علينا بقراتنا على قلة عددها..
الحلايبي هو من نستلم منه أموال حليبنا دون أن ندري أين هو يبيعه وهو الذي يمدنا بالأعلاف التي نريد.. وفي معظم الحالات نحن مدانون له في كل شهر بما جعل الكثير منا يبيع أبقاره واحدة بعد أخرى ليسدّد ديونه..
نحن لا نعرف موزع أعلاف حكومي يبيعنا العلف المدعم ولا نعلم كيف سبيل الإجراءات كي نحصل على نصيبنا من ذلك اعتبارا لكوننا ضعاف الفلاحين..

سامي الذوادي : ماتت بقرتنا ولم نجد بيطريا ينقذها..

سامي الذوادي، الشاب الذي رافقنا في زيارتنا الميدانية هذه جاءنا بوالدته فاطمة، مربية صغيرة فقالت لنا :

أنا مربية صغيرة.. ضعيفة الإمكانيات.. أربي بقرتين وبعض النعجات مع دجاجات اقتات يوميا من بيضها..

البقرتان كانتا تمثلان رأس مالي وكنت سعيدة بما تدرّانه عليّ من حليب في كل يوم..

قبل أيام، مرضت لي إحداهما ولا أدري نوع أو سبب مرضها.. شحبت.. ثم امتنعت عن الأكل والشراب.. سألت أحد جيراني فناولتي رقم هاتف بيطري مندوبية الفلاحة في معتمديتنا.. طلبته مرات ومرات.. فلم يرد عليّ..

علما بأنه لم يسبق لنا أن زارنا في منطقتنا هذا الطبيب لمداواة أو لتلقيح أبقارنا وأغنامنا..

هزلت أكثر بقرتي ، فاستنجدت بالهاتف بطبيب بيطري من القطاع الخاص.. لم يأتني في الحين.. بل جاءني بالليل وبعد فوات الأوان.. ناول بقرتي حقنتين ثم مضى..

ومن الغد صباحا ماتت بقرتي وهي التي تساوي أكثر من ستة آلاف دينار…

هذا حالي وحال كل مربّ صغير في عمادتنا.. نحن متروكون لمعاناتنا اليومية دون تأطير أو رعاية تذكر من الدولة..
ابنها سامي حدثنا هو الآخر فقال :

إلى جانب كل ما علمتموه خلال زيارتكم هذه أحدثكم فأقول أننا في عمادة الذواوه من معتمدية غزاله عددنا يقارب المائتي عائلة.. إنتاجنا اليومي من الحليب يناهز الألف لنر.. ومع هذا نحن مهمّشون.. منسيون.. نعيش على فلاحتنا الضعيفة والدولة لا تلتفت الينا ولو بالقليل من المساعدات.. نريد أن نكبر ونصير من الفلاحين ذوي القدرة على التعويل على أنفسنا ولكن لا أحد يأخذ بأيدينا..

بالنسبة للعلف المدعم، لا أحد منا يعلم ما يجب عليه فعله كي يتحصل عليه.. لا أحد يرشدنا.. خلية الإرشاد الفلاحي لم تزرنا يوما ولم ترشدنا إلى أي شيء..

ماء الشراب نحن يصلنا عن طريق مجمع الماء بالمنطقة لكن آلة الضخ ضعيفة لا توصل الماء إلى البيوت في المرتفعات..

أما عن تلاقيح الماشية فنحن لا نعلم بمواعيدها ولا يأتينا أي طبيب بيطري عمومي..

هذا كل ما نعانيه.. بلغوه لأهل الذكر في المعتمدية والبلدية والولاية ووزارة الفلاحة.. وإنا لكم لمن الشاكرين..
الحبيب العربي