لم ينم الشيخ عبدالوهاب عيسى فى الساعة العاشرة من كل يوم كعادته، كان ينتظر مولوده الخامس الذى أسماه محمد وأصبح «حبيب قلب أمه منذ اللحظة الأولى لولادته، وحفظت ذكرياته لحظة ولادته كما لو كانت ولدته منذ خمس دقائق، لحظتها كان الألم والسعادة يتصارعان على وجهها، هكذا قالت لها المولدة التى جاءت من طرف الطبيب الشاب نجيب محفوظ»، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «محمد عبدالوهاب».
ولد محمد عبدالوهاب يوم 13 مارس1910، مثل هذا اليوم، فى باب الشعرية بالقاهرة لأسرة تنتمى إلى «أبوكبير» بمحافظة الشرقية، وأما السنة التى ولد فيها، فبالرغم من ندرة إفصاح عبدالوهاب عنها، وبالرغم من أن الشائع سنة من ثلاث سنوات هي 1898 أو1901 أو 1902 فإنه وعلى لسانه فى سيرته الذاتية، التى كتبها لطفى رضوان وصدرت عن دار الهلال فى جوان 1991 يقول نصا: جاء مولدى فى 13 مارس من عام 1910، أى بعد رحيل الزعيم مصطفى كامل عن مصر بحوالى عامين كانت فيهما الأمة تحاول أن تضمد جراحها، وأن تمضي على طريقه رافعة شعاره «كل احتلال أجنبي هو عار على الوطن وبينه».
لقاء لزميلنا في البيان الورقية حسن بن أحمد مع عبد الوهاب
يذكر محمود عوض أن الطفل محمد أصابه المرض وعمره سنتان، فأحضروا له الطبيب الذى اختلى بوالده الشيخ عبدالوهاب وقال له: «هذا الطفل سيموت خلال ساعات، ولأن غدا الجمعة وهو إجازة فى الحكومة، فإنني أرى أن تستخرجوا شهادة وفاة من الآن، وهو ما حدث بالفعل، لكن اليوم التالى يشهد مفاجأة أن الطفل محمد لم يمت».
هكذا أراد الله أن يمد فى عمر الرجل الذى أصبح أحد أهم أعلام الموسيقى فى تاريخنا العربي، ويتحدث عن سنوات تكوينه التى جعلت منه هذا العملاق، قائلا فى سيرته الذاتية: «ما إن بلغت الخامسة من عمرى حتى ألحقنى والدى بكتاب فى الحى لأتلقى فيه مبادئ العلوم، وكان فى مقدمة تلك العلوم حفظ القرآن الكريم، وبعض دروس فى قواعد اللغة العربية والحساب، ولكننى كنت تلميذا خاملا بليدا، وعلى الخصوص فى مادة الحساب، وكنت زبونا دائما للفلقة التى كانت بعبع تلاميذ زمان، وكنت كلما شكوت لأبى ما أناله من الضرب فى «الكتاب» زادنى من عنده علقة أخرى ساخنة، ورغم ما كنت أتعرض له من قسوة فى سبيل تلقينى مبادئ العلوم، فلم أستطع أن أفقه شيئا فيها، لأن ميلى الطبيعى الذى ينفر منها كان أقوى من عصا أبى وعصا المدرسين جميعا، ولكن شيئا واحدا أقبلت عليه بشغف من بين علوم الكتاب، ذلك هو القرآن الكريم، ولست أدرى لماذا يشغف تلميذ فى الخامسة من عمره بحفظ آيات القرآن، اللهم إلا إذا كان يملك استعدادا نفسيا مبكرا للتجاوب مع لغة الله سبحانه تعالى».
تفتحت مدارك محمد عبدالوهاب على حفلات الذكر، التى يقيمها المصلون فى المسجد بعد صلاة الفجر فى بعض الأحيان، وبعد صلاة العشاء فى أحيان أخرى، يذكر: «رغم أننى كنت فى حوالى السابعة، فإننى كنت أشعر كلما سمعت إنشاد المصلين فى أنغام الذكر الرتيبة بانقياد عجيب، فقد كانت أهازيجهم الدينية تطربنى وتبعث فى أعماقى نشوة لها مفعول».
يتذكر «عبدالوهاب» أن شهرة الشيخ سلامة حجازى فى ذلك الحين بلغت مداها، وأغانيه ذاعت على كل لسان، ويؤكد: «كنت أجد لذة لا تعادلها حين أجمع صبيان الحارة، وأغنى ما أحفظ من أغانى الشيخ سلامة، وكانت هذه الهواية تصرفنى عن الذهاب إلى الكتاب فى بعض الأحيان، بينما كنت فى أغلب الأحيان أذهب إليه فى الصباح كالعادة، ثم أدعى كذبا وفاة عمتى، فيمنحنى المدرس إجازة لحضور جنازتها، وسرعان ما يضمنى ركن من إحدى حوارى الحى مع أقرانى لنمضى فى تقليد غناء الشيخ سلامة، حتى إذا حان موعد عودتى إلى البيت، حملت كتبى وعدت كما لو كنت قد أمضيت نهارى فى تلقى الدروس بجد واجتهاد، وأذكر أن شيخ الكتاب لاحظ كثرة ادعائى بوفاة عمتى طمعا فى الإجازة، فاستفسر من والدى الذى كذبنى بالطبع، وانتظر عودتى على أحر من الجمر لأتلقى «علقة» ما زلت أتذكرها كلما جاءت سيرة إحدى العمات».
يضيف عبدالوهاب: «رغم هذه الشدة التى عوملت بها من أسرتى، فإننى لم أستطع ترك هوايتى للغناء، بل كنت أتعجب من تلك المحاولات الفاشلة التى كانت تبذلها الأسرة لترغيبى فى اتخاذ طريق لا يتفق ورغباتى الحقيقية، وكانت هذه المحاولات تزيدنى تصميما على السير فى الطريق الذى تدفعنى إليه ميولى الشخصية، ولهذا كنت كلما سمعت عن فرح أو مولد يقام فى أية بقعة من القاهرة، أشمر ساقى وأذهب إلى هناك سيرا على الأقدام، بل «طيرانا» من أجل أن أستمع ولو من بعيد إلى كبار المطربين والصيتة وهم يغنون وينشدون فى تلك الأفراح والموالد».