“الوعي التام بمتاهات الروح بفضل إحساس الفنانة العالي باللعبة التشكيلية والبصرية”
مازالت الرحلة مستدامة والإصرار قوي من أجل الإبحار في عالم الرسامة الاستثنائية هيفاء الحاج صالح ، الذي شكٌل لوحده مركز اهتمام النقاد . أمعنت النظر في اللوحات التي حَوَت معرضعا الشخصي “المتاهة 2” الذي يقام بالمكتبة العمومية الشابة ، لأشرع بندوين قراءة أولية تخوٌل مناٌ إذابة جرعة معقولة من الحيرة ثم كشف ما خَفِي من الرغبة الجامحة لتلمٌس فحوى الرسوم ونوايا الفنانة التي أتقنت عبر تجلياتها التشكيلية وفسيفساء رسوماتها في تمرير ما تيسٌر من خفقات فرشاتها حتى تُشفي غليل اختيارها لافتكاك الفكرة وتمريرها للمتلقي والمتامٌل في ثناياها وشَدٌهِ بالتالي للكشف عن مكمن الغاية وهي تتخفٌى تحت خطوطها الملتوية التي تشكٌلها المتاهة، أشبه بالغيمة الماطرة أول الخريف.
هذا وقد شدٌني شدٌا قويا اختيار الفنانة لللونين الأبيض والأسود كقيمتين ضوئيتين للتعبير عن ثنائية في جانب الاحاسيس والمفارقة بين بعدين لا يتشابهان لتختزل الرسامة المسافة بينهما وتراوغنا بأسلوبها الفني المغاير ثم ترتجل متاهتها باقتدار لتنحت فصلا مشوقا من الفتنة والدهشة ولعبة الكرٌ والفرٌ التي اقامت نواميسها هيفاء الحاج صالح، ثم والاكثر من ذلك الرغبة في إزالة القلق عن المتيٌمين بالعزلة حينا واستدراج الفرح إلى المتقبٌل الوهن احيانا أخرى ، تلك فصول من ملحمة تشكيلية تفتح على نهايات وسيناريوهات مختلفة ، تراوغ وتزرع اشتياقا لا نظير له. مازلنا نترقٌب إحالتنا على بوٌابة رئيسية ثانية لهذه المتاهة الثانية لننطلق عبرها في صياغة ملحمة الرسامة الإبداعية قادم الأشواط. لمٌا التقينا الفنانة هيفاء الحاج صالح آخر مطافنا لرفع اللٌبس عن سرٌ التسمية وتعرية أسرار واغوار هذه المتاهة الأسطورية التي شدٌتنا لفقه تجاويفها صرٌحت لنا قائلة وبثقة في النفس ” في حقيقة الأمر أن بدايات وصولي إلى مفهوم “المتاهة” كان عبر مراحل، فاهتمامي في البداية كان معتمد على “العين” بكل ما تحتويه من مفاهيم عن النظرة الأحادية والنظرة المتحررة ودور كل منها في فهم العالم، ثم انتقلت لاحقا إلى الاهتمام بالشكل الدائري الذي يذكرني بشكل بؤبؤ العين إلى أن وصلت إلى الشكل الكروي للأرض، ثم وصلت الى الشكل الخرائطي والعالم المسطح من جديد كرؤية نقدية للعالم الذي يظهر فيه الشكل الخرائطي حدود وقيود من جهة، وفي نفس الوقت تواصل واتصال بين العالم والذي كان واضحا في الخط والخيط الرابط لشكل الخريطة. ربما كانت هذه الكلمة القادح لتجاربي اللاحقة في المتاهة، فبالرغم من أنها (الخريطة) كانت قريبة جدا من أعمالي السابقة إلا إنني لم اهتم بها كعنصر رئيسي بقدر رسمي للشكل التجريدي الواضح في الخط والخيط الواضحان في اعمالي التشكيلية المختلفة….” ثمٌ تضيف في مجمل كلامها قائلة” وهذا ما دفعني للاهتمام بها في أعمالي ولما يظهره الشكل الخرائطي من رمزية واضحة للعالم. وربما أيضا لما وصلت إليه من مفاهيم تجعلني اخص بالتساؤل عن الضياع والولوج والخروج في العالم، والرحلة والسفر والتشابك والتشعب والامتداد والافتراضية… وقد حاولت من جهة أخرى أن أجد مفهوما أوسعا يشمل كل المفاهيم التي مررت بها، إلى أن وصلت الى المتاهة التي تعد الملمة لكل هذه المفاهيم، خاصة وأنّ الأعمال التشكيلية تجعل من القارئ يتوه داخل خطوطها”.
هكذا تستدرجنا خطوط الطول والعرض تخترق بياض القماشة وكانها خريطة طريق، توهمنا بالنفاذ إلى نهاية المسار ربٌما ينجلي في بعض الاحيان ماخفي جرح في لون الأحمر الداكن كانها ذاكرة صدئة او وجع متقادم يراكم فوق المسار ليقطع مع النبض العادي والروتيني للحياة. إن الكتابة في شأن تجربة هيفاء الحاج صالح وما جاور متاهتها تكتنفها متعة بصرية وعاطفية لما تحمله رسومها من جاذبية وعمق تفكير وانغماس غير مباشر في متاهات الروح بخطوط وأشكال ملتوية تعكس نبضات القلب باختلاف مناخاتها العاطفية، عبر بوٌابة متاهة لا تفقه سرٌ فاتحتها من خاتمتها إلا مؤلفة الحكاية التشكيلية المحترفة هيفاء الحاج صالح المفعمة بما تيسٌر من قانون اللعبة الفنية والمشبعة بعشق لا متناهي لصنع الإختلاف والتحليق بجناح إبداعي ثالث لا تشبه الأخريات في سماء غزيرة بالأسماء…
بهكذا وصف نتلمٌس في المستقبل القريب أن الرسامة هيفاء الحاج صالح تداعب أفقها الجديد الذي تسعى لِطَرقِ عالم الصورة الفوتوغرافية لإقترابه الشديد من اسلوبها السمعي – البصري الذي يضاهي في قيمته الرسم بتاويلاته صورة ومعنى وحكاية لتجتمع كل هذه العناصر وتحيلنا على تقنية الفيديوغرافيا وتكتمل فلسفة الفنانة التي تسعى إلى تثبيتها لتتشكل بصمتها الشخصية .