بنزرت – رأس انجله – الحبيب العربي
هو الأمر يتعلّق بموقع جغرافي على شاطئ البحر في أقصى شمال ولاية بنزرت.. كان نسيا منسيا.. ومكانا مهجورا ومتروكا لحاله، تعبث به الطبيعة كما تشاء..
في فصل الشتاء تأكل منه أمواج البحر الأبيض المتوسط العاتية شاطئه حتى لا تبقي إلا الحجارة ونتوءاتها… وفي الصيف، يأتي النسيم البحري العليل والنقي على الشاطئ فيمنح رماله جمالا لا نظير له وصفاء يغري المصطافين الذين يبحثون عن الأماكن الهادئة والتي ما تزال عذراء، فيلتجؤون إلى هناك للسباحة برغم صعوبة الطريق المؤدّي إلى المكان..
أتحدث عن منطقة راس انجله من معتمدية بنزرت الجنوبية المعروفة لدى أقلية من عشاق البحر في كل صائفة..
أجمل ما في هذه المنطقة أنها ما تزال عذراء.. لم يدخلها التحضّر والتمدّن.. طريق الوصول إليها أشبه ما يمكن بمسلك لم يقع تعبيده.. وحتى الجزء المعبّد منه، أو قل المهيّأ، لم تعد إليه آلة التعبيد لترقّع حفره وثقوبه وكذلك جوانبه المهترئة..
البدائية في أجلّ مظاهرها الحياتية
الناس، أبناء المنطقة الأصليون، مازالوا في معظمهم يعيشون على الفلاحة والصيد البحري، حليب ودواجن.. حبوب وأعلاف وخضراوات وزيتون وغلال على مدار الفصول… وكذلك أسماك على اختلاف أنواعها..
هذا الموقع الذي تم به تركيز مجسّم القارة الأفريقية يوم 1 ديسمبر من سنة 2014، في عهد الترويكا بعد الثورة، حيث دشنت الموقع وزيرة السياحة آنذاك السيدة آمال كربول وقد التقطت لها صورا تذكارية في ذلك الموقع الساحر بجماليته..
يومها، حدثتنا الدولة عن تهيئة للمكان تليق بخاصية المنطقة التي ستصبح مزارا للسائحين من مختلف بلاد العالم..
يومها قلنا أن الذي فات ولاية بنزرت من مشاريع سياحية في العهدين السابقين، سنراه بعد اكتشاف الموقع وتدشينه… لكن لا شيء من ذلك حصل بالمرة..
“البيست” الموصلة إلى المكان بقيت على حالها بدائية.. ترابية.. حجرية.. وكثيرة الحفر والمطبّات… ما إن يجن الليل حتى تصبح كل المنطقة غارقة في الظلام..
لا مأوى سيارات هناك.. لا دكاكين.. لا مقهى.. ولا محل استراحة يرتاح به الزائرون..
فقط هي الولاية عيّنت حارسا بالنهار هناك… وبالليل يبقي الموقع والمُجسم به يحرسان نفسيهما.
إقبال الزائرين بدأ في التزايد منذ سنة 2017
تونسيون من كل الأماكن وأجانب كذلك.. وبنزرتية أيضا.. يأتون إلى هناك بسياراتهم الخاصة او عبر الحافلات.. لزيارة المكان.. يلتقطون صورا تحت مُجسم القارة الإفريقية.. ثم يعودون من حيث أتوا واعدين بألاّ يعودوا لتلك الطريق الوعرة..
انا نفسي، اصطحبت أحد اصدقائي، السيد منصف الهقاري، ذهبنا معا.. وقفنا على صعوبة الوصول عبر السيارة والقدمين ثم عدنا متألمين للحالة التي عليها ذلك المكان..
زيارتنا كانت عندما بلغ إلى علمنا أن البعض هشّموا رخام المجسّم ليلا وسرقوه مسيئين لسمعة السكان هناك، أبناء المنطقة الطيبين عامة، وضاربين بالخاصية الطبيعية والجغرافية هناك..
ادريس الشريف.. أول المكتشفين
إلى جانب كل ثراء وغنى الطبيعة في المنطقة، هناك في رأس انجله خاصية طبيعية لم ينتبه إليها الناس ولم يعرفوها إلا في سنة 2014، أي بعد الثورة بثلاثة أعوام تقريبا..
والفضل في هذا يعود إلى السيد ادريس الشريف الرحّالة بين بلدان العالم الذي زار منها أكثر من تسعين بلد..
السيد ادريس الشريف هو رجل ثقافة بامتياز.. رجل جمعياتي ينشط في العديد من أعرق جمعيات مدينة بنزرت.. وهو في آن واحد رئيس جمعية حماية الشريط الساحلي بولاية بنزرت..
دون أن ننسى أنه مؤلّف متميّز له مؤلّفان صدرا وثالثهما في المطبعة… هو مبدع وهو رحّالة كما ذكرنا في البداية…
ادريس الشريف، ابن حي الأندلس، أو “حمدلس” كما يحلو للبنزرتية تسميته، هو الذي كان أصلا في اكتشاف خاصية منطقة راس انجله المتمثلة في كونها أكثر نقطة في شمال إفريقيا تقدّما في البحر المتوسط.. مقابلة في موقعها نقطة كاب أغولا -Cap Agola بإفريقيا الجنوبية الأكثر تقدما في المحيط الأطلنطي جنوب القارة الإفريقية..
عن هذا الموقع، يحدّثنا السيد ادريس الشريف فيقول : “كان في حسبان الجميع أن نقطة الرأس الأبيض cap blanc في بنزرت الشمالية هي الأكثر رمزية في شمال أفريقيا لكن اتضح لنا علميا أن نقطة راس انجله هي التي تشد الانتباه أكثر بحكم أنها أكثر تقدما في البحر المتوسط في شمال أفريقيا، وبالتالي في إفريقيا كلها.. وهي تتقدم عن مستوى الراس الأبيض بحوالي 217 مترا”..
سألناه أن يحدثنا عن البنت الايطالية ابنة أحد المعمرين الإيطاليين في ولاية بنزرت، الآنسه اُنجِله، التي تحمل المنطقة اسمها فقال : “اسم المنطقة لا يعود لإسم أي كان، بل هو منسوب للنخيل الذي كان كثيفا في تلك المنطقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث كان الأهالي يطلقون على منطقتهم اسم “النخيله”.. ولما كانت اللهجة الفرنسية لا تستطيع نطق حرف الخاء، فقد حرّفوا الإسم شيئا فشيئا حتى صار أنجٍله.. هذا كل ما في الحكاية”
وماذا عن المشروع السياحي برمته الذي سمعنا عنه سنوات طوالا ؟.. قال: “نحن كجمعية، حين اكتشفنا خاصية المنطقة، وبحكم معرفتي بعديد النقاط في العالم ذات الخاصية الشبيهة بخاصية رأس انجله، وهي نقاط حولتها بلدانها إلى نقاط مزارات سياحية من كل أصقاع العالم، عملت على إبراز خاصية النقطة الأكثر تقدما في شمال القارة الإفريقية في البحر المتوسط، فكان أن اقترحت على وزيرة السياحة في 2014 السيدة آمال كربول التي أدركت أهمية إبراز النقطة وتركيز بعض البرامج السياحية بها…
للأسف، السيدة كربول لم تعمر طويلا على رأس وزارة السياحة.. خلفتها السيدة اللومي، عرضوا عليها المشروع بعد سنتين من اكتشافه، فلم تفهم المراد… مضت هي الأخرى ومضى بعدها وزراء سياحة آخرون ولا أحد منهم التفت جديا للمنطقة..
– في برنامجنا الأصلي، كنا خططنا لتهيئة الطريق كمسلك بدائي ينتهي قبل 300 مترا من المجسّم حيث تتوفر أسباب الزيارة المريحة هناك ليجد الزائر أين يأوي سيارته وأين يشرب أو يقتات.. وحيث يجد أطفال الزائرين طاولة اسفلتية في لعبة تنس الطاولة وأخرى “دامّه” كبيرة الحجم مبنية إلى جانب لافتات وجهات الشرق والغرب والجنوب والشمال حول المجسم بها المسافات أتي تفصل راس انجله عنها… مع ضرورة المحافظة على عذرية المنطقة بطبيعة الحال..
الحبيب العربي