ترتبط بـ”المرآة”- في “معجم الرموز” (Dictionnaire des symboles) لمؤلّفيْه “جون شوفالييه” وألان غيربرانت” (Jean Chevalier et Alain Gheerbrant) دلالاتٌ رمزيةٌ عديدةٌ من قبيل: الحقيقة والصدق وما ينطوي عليه القلبُ من مشاعرَ وانفعالاتٍ، وما يشتمل عليه الوعيُ من أفكارٍ وخيالاتٍ. والمرآة، أيضا، أداةُ الإشراق العقلي والروحي، ورمزُ الحكمة والمعرفة، وأمارةٌ على انكشاف الهوية في الاختلاف. والمرآة، في الغالب الأعم، رمزٌ قمريّ من جهة أنها تضاهي القمر الذي ينعكس على أديمه نور الشمس. وهي ترمز إلى تتالي الأشكال، وديمومة الكائنات المحدودة والمتغيرة على الدوام. وإذا كان انعكاس الضوء أو الواقع في المرآة لا يغيّر من طبيعتيهما في شيء فإنه يتضمن -في وجه من الوجوه- مظهرا من مظاهر الوهم والكذب؛ فثمة -حينئذ-“هويّة في الاختلاف”، أي أنّ الشيء هو نفسه وغيره في وقت واحد. وترمز المرآة في الحضارة الصينية – بوصفها رمزا قمريا أنثويا- إلى الملكة، فضلا عن كونها علامة على التناغم والانسجام والرّباط الزوجي، في حين ترمز المرآة المهشَّمة إلى القطيعة والانفصال بين الزّوجين. وأما في اليابان فترمز المرآة إلى النقاء التام للنفس، وخلوص الروح من كل دَنَس، وانعكاس الذات على الوعي. وللمرآة دلالةٌ على النفس الإنسانية وأغوارها السحيقة، وقد ركّز المحلل النفساني “جاك لاكان” (Jacques Lacan) على دور “مرحلة المرآة” (Stade du miroir) في تكوّن شخصية الفرد وتشكّل الأنا ووعيه بذاته وبالآخر.
ولا مِرْيَةَ في أنّ اطّراد استعارة “المرآة” في عناوين الكتب قديما وحديثا أمرٌ ذو دلالة ومغزى وقيمة، ففي مجال النقد عناوين من قبيل:”المرايا المتجاورة” لجابر عصفور، و”مرايا جابر عصفور” (دراسات مهداة إليه)، وثنائية “المرايا المحدّبة” و”المرايا المقعرة” لعبد العزيز حمودة، و”مرايا القراءة” لخالد بلقاسم، و”مرايا التأويل” لشعيب حليفي، و”وجوه النرجس…مرايا الماء” لمحمد الغزي، و”مرايا نرسيس” لحاتم الصكر، إلخ…؛ وفي مجال السرد روايات من نحو:”مرايا الغياب” لنبيهة العيسي، و”مرايا عمياء” لعفيفة سعودي السميطي، و”مرآة الخاسر” لشكري المبخوت…؛ وفي الشعر دواوين نظير:”المسرح والمرايا” لأدونيس، و”شهقت عيني في المرآة” لعبد العزيز الحاجي، إلخ…. ولو استرسلنا في سوق العناوين لما وقفنا عند حدّ.
غير أنّ دالّ “المرآة” وإن احتلّ حيّز عتبة العنوان بوصفه موضعا استراتيجيا ومفتاحا تأويليا وموجّها قرائيا، فإنّه ينسرب إلى مطاوي المتون النصية ونسيجها الداخلي ليغدو مبدأً تكوينيا فاعلا في تشكيل بنائها وإنتاج دلالاتها. فإذا بالمرآة تعدل عن دلالتها الأصلية ومعناها الحقيقي الأول لتتلبّس بدلالات إيحائية ومعانٍ مجازية ثوانٍ؛ بل إنها لتتحوّل في بعض الأحيان إلى “استعارة تصوّرية” (Métaphore conceptuelle) بمصطلحات “العرفانيّين” تتجاوز نطاق اللفظ ودور تحسين الكلام وتوشيح العبارة إلى الانغراس في بنية الذهن البشري بوصفها أداةً مفهوميةً ومنوالاً عرفانيًّا لإدراك العالم وبَنْيَتِهِ وفهم الكون وتفسيره.
وأيًّا يكنْ وضعُ المرآة في الخطاب محورًا دلاليًّا أو مبدأً إنشائيًّا، وأيًّا يكنْ نوعُها مرآةً طبيعيةً أو صناعيةً، حقيقيةً أو مجازيةً، صقيلةً مستويةً أو محدّبةً أو مقعّرةً أو مهشّمةً…، وأيًّا تكنْ طرائقُ توظيفها وكيفياتُ اشتغالها والمقاصدُ المنوطةُ بها والوظائفُ الناهضةُ بأدائها، فلا شكّ في أنها (أي المرآة) حقيقةٌ بالدرس والتمحيص جديرةٌ بالنّظر والمساءلة سواءً أكان ذلك في مجال الأدب والفنّ والنقد أم في ميدان الفكر والعلم والفلسفة أم في أيّ دائرة من دوائر النشاط الرمزي والذهني التي يكون فيها للمرآة حضورٌ ودورٌ وأثرٌ ووظيفةٌ.